جمود الاتحاد المغاربي يغلق باب الوحدة والتنمية أمام الأجيال الصاعدة

يعتبر الدكتور إدريس لكريني أن هناك الكثير من المقومات والإمكانات المذهلة التي توفر الأساس لنجاح الاتحاد المغاربي في كسب رهانات داخلية وإقليمية ودولية؛ “فعلاوة على الموقع الإستراتيجي وتنوع الخيرات وتوافر الإمكانات البشرية والطبيعية، هناك تراكم تاريخي ومشترك ثقافي يدعم هذا الأمر”.

وعلى الرغم من هذه الإمكانات الضخمة، يضيف مدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات ورئيس منظمة العمل المغاربي، “فإن هناك تحديات ومخاطر اقتصادية وأمنية واجتماعية وصحية تواجه المنطقة برمتها في الوقت الراهن”.

ويرى الكاتب، في مقال جديد له، أن حصيلة الاتحاد المغاربي، على امتداد ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن، “كانت هزيلة وضعيفة تعكسها وتترجمها حالة الجمود التي رافقت هذا الإطار ومختلف الاتفاقيات التي راكمها منذ إحداثه”.

وهذا نص مقال لكريني الجديد:

مع حلول ذكرى تأسيس الاتحاد المغاربي التي تصادف السابع عشر من شهر فبراير من كل عام، يتجدّد طرح الأسئلة نفسها بصدد كلفة جمود الاتحاد، وعدم استثمار الإمكانات المتاحة، وحول مستقبل هذا الإطار في عالم متغير ومليء بالتحديات المشتركة.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-1608049251753-0’); });

ظل البناء المغاربي حلما يراود قادة الحركات الوطنية المغاربية التي تكتلت لمواجهة الاحتلال الأجنبي، ورسمت معالم هذا البناء وآفاقه عبر لقاءات تاريخية، قبل الإعلان الرسمي عن ميلاد هذا الاتحاد الذي يتشكل من المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا وليبيا، بمقتضى اتفاقية مراكش الموقعة في مثل هذا التاريخ من عام 1989؛ ما خلف أجواء من الأمل والتفاؤل في أوساط الشعوب المغاربية، نحو غد أفضل سمته التنسيق والتعاون ومواجهة مخاطر عابرة للحدود بشكل جماعي.

وعلى امتداد سنوات، تمكن الاتحاد المغاربي من تشكيل إطاره التنظيمي والمؤسساتي؛ بعد تنصيب الأمانة العامة الموجودة بمدينة الرباط، ومجلس الشورى الذي يوجد مقره في العاصمة الجزائرية، والهيئة القضائية التي توجد في العاصمة الموريتانية نواكشوط، إضافة إلى الجامعة المغاربية والأكاديمية المغاربية للعلوم المتركزة في العاصمة الليبية طرابلس، إضافة إلى المصرف المغاربي للاستثمار والتجارة الخارجية الموجود في تونس العاصمة.

ثمّة الكثير من المقوّمات والإمكانات المذهلة التي توفر الأساس لنجاح هذا التكتل في كسب رهانات داخلية وإقليمية ودولية؛ فعلاوة على الموقع الإستراتيجي وتنوع الخيرات وتوافر الإمكانات البشرية والطبيعية، هناك تراكم تاريخي ومشترك ثقافي يدعم هذا الأمر..

وعلى الرغم من هذه الإمكانات الضخمة، والتي تقابلها تحديات ومخاطر اقتصادية وأمنية واجتماعية وصحية تواجه المنطقة برمتها في الوقت الراهن، فإن حصيلة الاتحاد على امتداد ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن كانت هزيلة وضعيفة تعكسها وتترجمها حالة الجمود التي رافقت هذا الإطار ومختلف الاتفاقيات التي راكمها منذ إحداثه..

تبرز الكثير من التجارب الدولية أهمية التعاون والتنسيق الإقليميين في فضاءات جغرافية متصلة في كسب معارك تنموية وإستراتيجية مختلفة؛ ما بوأها مكانة رائدة على المستوى العالمي، وهو ما تجسده التجربة الأوربية المتميزة في هذا الخصوص، والتي مكنت دول الاتحاد من طيّ صفحات قاتمة من تاريخها، لتنفتح على إرادة الشعوب وآفاق المستقبل، بعيدا عن الحسابات الضيقة والصراعات والأزمات والحروب، وتراكم منجزات سياسية واقتصادية واستراتيجية كبرى.

وعلى الرغم من تزايد المخاطر والتحديات في المنطقة المغاربية في العقدين الأخيرين، سواء تعلق الأمر منها بتراجع ميزان التفاوض في مواجهة الاتحاد الأوربوي بصدد عدد من الملفات والقضايا (التعاون الاقتصادي والهجرة، والصيد البحري..)، أو تمدّد الإرهاب وتنامي الهجرة بكل أشكالها، وارتباك الأوضاع الأمنية والسياسية في ليبيا..، فإن ذلك لم يشكّل حافزا لطي الخلافات، وتعزيز التعاون التجاري والاقتصادي بين دول المنطقة، بل تطورت وتصاعدت هذه المشاكل، بما فوّت على المنطقة برمتها فرصا حقيقية، وكلّفها خسائر باهظة، أصبحت معها المنطقة ضمن التكتلات الإقليمية الأقلّ تعاونا على المستويين الاقتصادي والتجاري..

حقيقة أن هناك مشاكل مختلفة تعوق هذا البناء، تتراوح في مجملها بين نزاعات تاريخية وحسابات مصلحية ضيقة وآنية لا يمكن إخفاؤها.. غير أن هذا الرهان يظل في حقيقة الأمر قدرا جماعيا، وضرورة إستراتيجية، وحتما سيشكل أولوية كبيرة بالنسبة إلى الأجيال الصاعدة التي ستقتنع بجدواه وحيويته.

يقدّم الاتحاد الأوروبي دروسا وعبرا راقية في التكتل واحترام سيادة الدول الأعضاء وتدبير الأزمات والصراعات بسبل حضارية؛ فهذا الإطار الذي جاء في أعقاب حربين عالميتين مدمّرتين، سعى بسبل متدرجة ومنفتحة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري الذي أسهم في تحصين المجتمعات الأوروبية من إعادة تكرار تجارب قاتمة من تاريخها، فهو نتاج تطوّر سياسي أسهم من جانبه في تعزيز مسار التحوّل الديمقراطي في عدد من البلدان الأوروبية، بعدما نهج مقاربة تشاركية دعمت هذا البناء من أسفل، ودفعت صناع القرار بأوروبا إلى تعميق التعاون والتنسيق على مختلف الواجهات.

في الوقت الذي تتزايد فيه المطالب الداعية إلى تمتين العلاقات الاقتصادية بين الدول المغاربية، كسبيل لتشبيك المصالح الكفيلة بتوفير الشروط البناءة لتسوية وتدبير الخلافات القائمة، تشير المعطيات الإحصائية والميدانية إلى ضعف المبادلات التجارية بين هذه الأقطار؛ فيما تزداد الأمور تعقيدا، مع بقاء الحدود الجزائرية – المغربية مغلقة منذ سنوات وبذرائع واهية.

تؤكد الممارسات الدولية، على امتداد مناطق مختلفة من العالم، أن سياسة إغلاق الحدود ومدّ السّياجات بمبررات مختلفة كالحدّ من الهجرة غير النظامية أو التهريب.. هو خيار مفلس، ولا ينمّ عن بعد إستراتيجي؛ ذلك أن المخاطر تندثر بصورة كبيرة مع تعزيز التواصل وفتح الحدود، في زمن العولمة وتنامي المخاطر العابرة للحدود وما يفرضه ذلك من تكثيف التعاون ومدّ الجسور والتنسيق على مختلف الواجهات.

ففي الوقت الذي نجد فيه الكثير من التنظيمات والتكتلات الإقليمية تحقّق منجزات كبرى على المستويات الاقتصادية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، لم تتمكّن بعد دول المنطقة من تفعيل هذا الاتحاد، بما يخلّف كلفة وخسائر كبرى بالنسبة للشعوب المغاربية.

إن بناء اتحاد مغاربي في مستوى تطلعات الشعوب وتحديات المرحلة يقتضي توافر إرادة سياسية حقيقية تنمّ عن قناعة راسخة بتجاوز الخلافات ومد جسور التواصل، وإعمال إصلاحات سياسية تنعكس بالإيجاب على الإطار الاتفاقي المؤطر للاتحاد نحو مزيد من الانفتاح والتشاركية في اتخاذ قرارات مصيرية تحصّن الأجيال المقبلة، وتحقق التنمية، وتمنح المنطقة مكانة تليق بإمكاناتها الواعدة.

تزداد التحديات التي تواجه المنطقة المغاربية، يوما بعد يوم؛ ما يفرض استحضار مصالح الشعوب والالتفات إلى الأصوات البناءة، وبلورة مواقف جريئة تدعم طي الخلافات واستثمار المقومات المتوافرة خدمة للمستقبل، بدل هدر الزمن والإمكانات في صراعات ضيقة ومفلسة لن تكون في صالح المنطقة برمتها.

The post جمود الاتحاد المغاربي يغلق باب الوحدة والتنمية أمام الأجيال الصاعدة appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى