هل يتآكل النظام الدولي الحالي متعدد الأطراف في “عصر الشعبوية”؟

أفاد مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في ورقة بحثية أن الحكومة الصينية طبقت سلسلة من الإصلاحات لضمان استجابة شفافة وتعاونية وسريعة لمواجهة متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (سارس) في المستقبل، بل استثمرت الحكومات الغربية موارد كبيرة في تطوير القدرات العلمية في الصين، لكن عندما ضرب فيروس “كورونا” العالم من بوابة الصين، رفضت بكين السماح لمنظمة الصحة العالمية وخبراء أجانب آخرين بالوصول الكامل إلى مدينة ووهان (بؤرة تفشي المرض).

ولم تشارك الصين عينات من الفيروس، وقامت الحكومة بقمع الأطباء والممرضين والصحافيين، الذين أخبروا العالم بتفشي المرض، كما نشرت معلومات مُضلِّلة حول أصول الفيروس. وصار هناك تساؤل مُلحّ: لماذا فشلت جهود المجتمع الدولي السابقة في تشجيع الصين على أن تكون طرفا مسؤولا في مجال الصحة العامة العالمية؟ وكيف يمكن تفادي ذلك مستقبلا، سواء في الصين أو في دولة أخرى؟.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-1608049251753-0’); });

في الوقت نفسه، يضيف مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، فشل دونالد ترامب في الفوز بولاية رئاسية، لكنه جعل “الترامبية” قوة مهيمنة داخل الحزب الجمهوري. ورغم خسارة ترامب بفارق سبعة ملايين صوت عن جو بايدن، فإن عدد المُصوِّتين له انتقل من 63 مليونا في 2016 إلى ما يقارب 74 مليونا في 2020.

ولطالما كان الحزب الجمهوري مُتشككا في المنظمات والمعاهدات متعددة الأطراف. لكن قبل ترامب كان يدعم نظاما دوليا تعدديا فقط تحت قيادة الولايات المتحدة. وهذا يعني أن الحزب الجمهوري في ظل التوجهات “الترامبية” من المحتمل أن يستمر في تبني مبدأ “أمريكا أولًا”، ويتخلى تماما عن المسارات الدولية التعاونية. وحتى إذا دخلت إدارة ديمقراطية في اتفاقية دولية، فمن المحتمل جدا أن تنسحب منها الإدارة الجمهورية اللاحقة.

المثالان الصيني والأمريكي ما هما إلا مظهرين دراميين لاتجاه عالمي يشير إلى صعود القومية وأحادية الفعل على مستوى العلاقات الدولية، والتخلي عن أطر التعددية والاتفاقات الجماعية. فحتى البرازيل والهند، اللتان كان يُنظر إليهما في السابق على أنهما دولتان غير ليبراليتين، لكن يمكنهما أن تلعبا دورا حيويا في إصلاح النظام الدولي، تغيّر خطابهما السياسي، وصارتا تبتعدان أكثر فأكثر عن السياسات الخارجية التعاونية متعددة الأطراف، وبدا أن النظام الدولي متعدد الأطراف في طريقه إلى التآكل.

تعددية فعّالة

لقد تأسس النظام الدولي الحالي متعدد الأطراف، وفق الورقة البحثية ذاتها، في بدايات الحرب الباردة، عندما أنشأت الولايات المتحدة وحلفاؤها مؤسسات جديدة للتعاون مع بعضها البعض لتحقيق رؤية إيجابية للنظام الدولي واحتواء الاتحاد السوفياتي. ومع نهاية الحرب الباردة ظهرت فرصة لتوسيع نطاق التعددية لتشمل دولا خارج الكتلة الغربية (روسيا والصين والهند بالأساس).

وقدّم النمو الاقتصادي السريع في العالم غير الغربي (الصين والبرازيل والهند) قوة دفع إضافية، حيث صاغ جيم أونيل من بنك “غولدمان ساكس”، في خريف عام 2001، مصطلح “بريكس” (هو اختصار لاتحاد الاقتصادات الوطنية الناشئة: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا). وأدركت الإدارات الأمريكية المتعاقبة ضرورة أن تعمل الولايات المتحدة والصين معا لمواجهة التحديات المشتركة، بينما ستقل أهمية المنافسات الجيوسياسية القديمة، وبمرور الوقت قد يحدث إصلاح سياسي تدريجي في هذه البلدان الاستبدادية.

واستندت الأدبيات حول التعددية في هذه الفترة على فرضية رئيسية هي أن الدول غير الغربية يجب أن يتم دمجها في النظام الدولي عن طريق مسارين:

1 – تطبيق إصلاحات مؤسسية تشمل مراجعة أوزان التصويت في صندوق النقد الدولي (الذي كان يعطي بلجيكا القدر نفسه من النفوذ مثل الصين). كما تشمل إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتوفير تمثيل أكبر للعالم غير الغربي، وتوسيع مجموعة الدول السبع إلى ما أصبح يعرف بـ .G-20

2 – حماية التعددية من الجمود عن طريق تكوين ائتلافات مختلفة من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية على أساس كل قضية على حدة، حيث تكون لكل ائتلاف قواعد وسياسات مُحددة.

وفي مرحلةٍ ما بعد الأزمة المالية الدولية (2008-2009)، نجحت الصين في إثبات نفسها كقوة اقتصادية كبرى استطاعت إخراج العالم من حافة “الكساد الكبير”. ولكنها اتجهت لتبني سياسات أكثر تشددا وحزما من الناحية الجيوسياسية، وحينئذ انقسم مؤيدو التعددية إلى فريقين:

الأول: رأى أن الصين تمتلك طموحات إقليمية، إلا أن مصالحها لا تتعارض بشكل عام مع مصالح الولايات المتحدة.

الثاني: اعتقد أن الصين- إلى جانب روسيا والعديد من الدول الأخرى- تسعى إلى استبدال الأنظمة الإقليمية الحالية في آسيا وأوروبا، خاصة تلك المتحالفة مع الولايات المتحدة. وبذلك لا يوجد أي احتمال لدمجها في النظام الدولي لأن العلاقة معها ستكون تنافسية.

من التعددية إلى الشعبوية

وأوضحت الورقة البحثية أن وتيرة هذا الجدل تسارعت خلال العقد الماضي، حيث أصبح العديد من قادة العالم أكثر قومية واستبدادية وأقل ميلا للتعددية، حيث انجذبت البرازيل نحو اتجاه قومي شعبوي، كما فعلت الهند، وأظهر ترامب بوضوح خصائص استبدادية، حتى في ظل تقييد حركته من قِبل المؤسسات الأمريكية، وكذلك الحال بالنسبة لقادة الدول السبع الكبرى والـ.G-20

لِنُعِدْ تأمل حالة البرازيل، فقبل مجيء الرئيس اليميني الحالي جايير بولسونارو، كانت البرازيل تلعب دورا بنّاءً في المؤسسات متعددة الأطراف، رغم تحفظاتها على نظام تهيمن عليه الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، بعد أن كشف إدوارد سنودن عن تفاصيل برامج المراقبة والتجسس الأمريكية، وظهرت محاولات الصين وروسيا لممارسة السلوك ذاته عبر الإنترنت، اتخذت مبادرة NETmundial البرازيلية مسارا وسطيا، حيث تبنت مسارا يحافظ على الإنترنت الحر والمفتوح، ولكنها شكّكت- في الوقت نفسه- في القيادة الأمريكية. وكانت هذه المبادرة قد تأسست عام 2014 بغرض إنشاء نظام أساسي جديد لقضايا “حوكمة الإنترنت”. لكن حاليا قوّض السلوك السياسي للرئيس البرازيلي أي محاولات لإدماج البرازيل في نظام دولي متعدد الأطراف، حيث انتقدت الحكومات الأوروبية بشدة بولسونارو بشأن حرائق الأمازون عام 2019، والتي ردّ عليها بإهانة زوجة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولم تقدم مجموعة الدول السبع الكبرى للبرازيل إبان تلك الحرائق سوى مساعدات متواضعة، وهو ما رفضته البرازيل في ذلك الوقت.

الأمر ذاته انسحب أيضا على الدول الأوروبية، فقد صار القادة هناك أكثر ميلا إلى الخطابات والسياسات الشعبوية، ويتجنبون الحديث عن مفاهيم مثل “النظام الدولي الليبرالي” أو “الحكم العالمي”، وأصبحت اتفاقيات مثل “الاتفاق العالمي للهجرة” بؤرا للتوتر السياسي داخل الدول.

مسارات بديلة

بعد ظهور جائحة “كوفيد-19″، وما تبعها من سلوك صيني متحفظ، وسلوك أمريكي انعزالي قومي، صارت أوروبا تخشى تبدد النظام الدولي الحالي متعدد الأطراف، الذي منحها مكانة متميزة، وحافظ على مصالحها السياسية والاقتصادية. ولمواجهة هذا التحدي صار أمامها ثلاثة مسارات بديلة يلخصها المركز فيما يلي:

المسار الأول: النهج التدريجي

يعتمد هذا المسار على مواصلة الاتحاد الأوروبي الضغط من أجل حلول متعددة الأطراف للأزمات الدولية، في سياق الشراكة مع الولايات المتحدة، والتعاون مع الصين وغيرها من القوى غير الغربية. إذ ستدفع أوروبا من أجل العودة إلى العمل بالاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA)، واستمرار التنسيق حول قضية تغيير المناخ، وإصلاح منظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة العالمية، وتبني نهج تعاوني لإدارة الاقتصاد العالمي.

وفي هذا الإطار، يرى الأوروبيون أن النظام الدولي متعدد الأطراف يخدم بشكل موضوعي مصالح العالم بأسره، وليس العالم الغربي فقط. وقد كان هذا هو النهج المتبع في العقدين الماضيين. ومع ذلك، تحولت وجهات النظر الأوروبية تجاه الصين في اتجاه أكثر تشككا منذ عام 2015 بسبب رفض بكين قبول إصلاحات اقتصادية هيكلية جادة، وبسبب سياسات الرئيس الصيني شي جين بينغ بشكل عام. لكن الأوروبيين لا يزالون رافضين لأي نهج يستبعد الصين من حيث المبدأ.

المسار الثاني: “وحيد في الغابة”

قد يتولّد هذا المسار نتيجة اقتناع الأوروبيين بأنهم الوحيدون الملتزمون بالحلول متعددة الأطراف، خاصة أن “الترامبية” (السياسات اليمينية الشعبوية الانعزالية) صارت قوة مهيمنة داخل الحزب الجمهوري، وسيكون لها تأثير كبير على السياسة الوطنية الأمريكية، وصار واضحا أن السياسات الأمريكية تغيرت بشكل عميق، بغض النظر عن هوية ساكن البيت الأبيض.

هذا المسار يتطلب جهدا حقيقيا لجعل الاتحاد الأوروبي أكثر استقلالية من الناحية الاستراتيجية وأقل اعتمادا على الولايات المتحدة، وسيحتاج إلى قدرات عسكرية خاصة، وجهاز استخباراتي عالي المستوى، وثقافة استراتيجية مشتركة.

وعبر هذا المسار، سيتعامل الاتحاد الأوروبي مع جميع القوى الدولية (الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا والبرازيل وغيرها) لتقديم حلول متعددة الأطراف للمشاكل المشتركة. كما سيتجنب الاصطفاف مع الولايات المتحدة ضد الصين لاعتقاده أن بكين شريك لا غنى عنه في معالجة المشاكل العالمية. ولكن يرى الكثيرون أن تبني هذا المسار ما زال بعيدا لأنه يتعارض مع القيم الأوروبية والتحالف طويل الأمد مع الولايات المتحدة.

المسار الثالث: “إعادة تنشيط العالم الحر”

يرتكز هذا المسار على جهود التعاون المشترك بين أوروبا والولايات المتحدة والمجتمعات الحرة في مواجهة السياسات الصينية والروسية، من حيث التحكم في التقنيات الجديدة للذكاء الاصطناعي، والحفاظ على تكافؤ الفرص الاقتصادية مع الصين، وحماية المؤسسات الديمقراطية من التدخل الخارجي، والدفاع عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. أي أنه مسار يسعى إلى تحركات جماعية من جانب ما يُسمى بـ”العالم الحر” ضد الدول غير الديمقراطية.

ويعود مفهوم العالم الحر إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وقد استخدمه القادة الأمريكان عام 1941 للضغط من أجل الدخول في الحرب ضد النازيين، ثم استخدموه لمواجهة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي، ولكن سرعان ما تم التخلص منه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

سترتكز استراتيجية العالم الحر في المقام الأول على تعزيز وحماية المجتمعات الحرة في عالم أصبح غير آمن للديمقراطية، وستتم استعادة نموذج ما بعد الحرب العالمية الثانية لتعزيز التعاون متعدد الأطراف بين مجموعة من البلدان ذات التفكير المماثل عن طريق:

– ضمان أن المجتمعات الحرة ستكون قوية بما يكفي لتحمل التهديدات من الداخل والخارج. ويعني هذا الاستثمار في البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك الصحة العامة والتعليم والبحث والتطوير، ومعالجة الفساد، وحماية المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون من التآكل على أيدي القوميين الشعبويين، وإصلاح اللوائح الضريبية والمالية الدولية.

– وضع آليات قانونية جماعية لمواجهة القوى الاستبدادية، التي تسعى إلى إكراه مجتمعات حرة بطرق غير شرعية، والعمل بشكل استباقي ضد هذه القوى لمواجهة التضليل والفساد والعمليات الاستخباراتية، وحماية البنية التحتية التكنولوجية.

– تقوية القواعد الاقتصادية الليبرالية، وإصلاح وتشكيل النظام الاقتصادي العالمي، وتقليل الثغرات الضريبية للشركات، ومعالجة عدم المساواة، وتنظيم التمويل الدولي.

The post هل يتآكل النظام الدولي الحالي متعدد الأطراف في “عصر الشعبوية”؟ appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى