تطور العملات المشفرة عبر العالم يطرح تحديات وعوائق مالية واقتصادية

تُشير عدد من التوقعات إلى أن العملات المشفرة سوف تصبح جزءًا من النظام المالي العالمي خلال السنوات القليلة القادمة، بعدما حظيت بدعم كبير، وهو ما سيطرح تحديات كبيرة على المنظومة المالية برمتها.

وأصبح العديد من المستخدمين عبر العالم يقبلون على هذه العملات، كما دعمت عدد من المؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى بنيتها التحتية ونظامها التقني (البلوك تشين)، واستثمر رجال الأعمال في المحافظ الإلكترونية لهذه العملات؛ ولم يعد الحديث عن مستقبل العملات المشفرة بالأمر المهم بقدر الحديث عن مستقبل العملات الوطنية التقليدية.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-1608049251753-0’); });

في هذا الصدد، يطرح مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المستقبلية في ورقة بحثية إمكانية تطوير العملات الوطنية التقليدية لكي تصبح هي الأخرى مشفرة، أي يتم تداولها عبر محافظ إلكترونية تستند إلى نظام “البلوك تشين”، دون وجود حقيقي لهذه العملات على أرض الواقع أو في أرصدة البنوك.

وتشير الورقة إلى أن التطور سالف الذكر إذا حدث سيطرح السؤال حول وظيفة البنوك وشركات تحويل الأموال حينها، وكيف سيتم التغلب على مشكلات عدم استقرار العملات المشفرة، ومشكلة تحديد الهوية لضمان عدم إساءة توظيفها، وما هو مصير أكثر من 3000 عملة مشفرة قائمة وموجودة حاليًا في الأسواق تقترب قيمتها من ترليون دولار.

دعم العملات المشفرة

ذكر المركز ألا أحد يجادل بشأن مستقبل العمليات المشفرة، حيث تجاوز المجتمع المالي العالمي هذا الجدل، وتقبل الأمر الواقع الذي فرضته هذه العملات، لكن مازالت هناك محاذير وتخوفات حقيقية تطرحها هذه العملات ويحذر منها الخبراء، مثل: التقلبات العالية والسريعة في القيمة السوقية للعملة، واستخدامها كوسيلة للتهرب الضريبي والتجارة غير الشرعية، فضلًا عن مشكلة تأمين المحافظ الإلكترونية وسلاسل الكتل من الاختراقات والهجمات السيبرانية.

وعلى الرغم من هذه المحاذير، اكتسبت هذه العملات ثقة عدد كبير من المستخدمين ورجال الأعمال وشركات الدفع الإلكتروني، وتوجهوا إلى الاستثمار فيها بقوة، سواء من خلال تطوير بنيتها التحتية أو من خلال الاستثمار المباشر فيها عبر شراء هذه العملات.

وتتجلى الثقة في العملات المشفرة في حصولها على دعم كبرى الشركات المالية التي تقدم خدمات الدفع الإلكتروني، مثل “باي بال”، إذ أعلن المدير التنفيذي لها Dan Schulman أن الشركة سوف تسمح لمستخدميها النشطين الذين يتجاوز عددهم أكثر من 346 مليون مستخدم حول العالم باستخدام حسابات “باي بال” في شراء وبيع العملات المشفرة، وهي نقلة نوعية وكبيرة للغاية في البنية التحتية لهذه العملات.

ولم يقتصر الأمر فقط على “باي بال”، بل إن المدير التنفيذي أيضاً لشركة فيزا Alfred Kelly أعلن هو الآخر أنه سوف تتم تهيئة شبكات “فيزا” لتسهيل عمليات التداول في أصول العملات المشفرة. ومن ناحيتها، أعلنت الشركة المنافسة لها “ماستر كارد” بناء شبكة افتراضية لمساعدة البنوك على اختبار وتقييم عملية تداول العملات الرقمية الوطنية .

كما اكتسبت العملات المشفرة ثقة المستخدمين لعدة أسباب منها تنوع استخداماتها، فهناك العملات التي تحقق الربح السريع مثل “بيتكوين”، وهناك العملات المستقرة والمستندة إلى الدولار، التي يمكن استخدامها في التداول الآمن مثل عملة Tether، فأصبحت وسيلة مقبولة لدى البائع والمشتري، وتوافر لها شرط “القبول” الذي هو أحد أهم الشروط التي يجب توافرها في العملات.

تهديدات ومشكلات قائمة

تشير الورقة البحثية إلى أنه “على الرغم من هذا الدعم الكبير مازالت العملات المشفرة تواجه تحديات هيكلية، فهي إما أن تكون وسيلة جيدة وآمنة للتداول بين الأفراد أو وسيلة آمنة للتهرب وممارسة الأعمال غير الشرعية، لكنها لا يمكن أن تقوم بالوظيفتين معا”.

وأكد المركز البحثي أن إحدى أهم المشكلات القائمة التي تواجه العملات المشفرة هي القدرة على إخفاء الهوية الحقيقية للشخص، ما تنجم عنه تهديدات حقيقية، مثل: التجارة في السلع غير الشرعية، ودعم الحركات الإرهابية والتهرب من الضرائب، وتوفير ملاذ آمن للهروب من القيود القانونية، وكسر العقوبات المالية.

ومن ناحية أخرى، هناك تقلبات حادة في سوق العملات المشفرة، إذ يمكنها أن تكسب مكاسب كبيرة للغاية في خلال أسابيع قليلة، وتخسرها أيضًا في مدة أقل، وبالتالي فإن الاحتفاظ بكميات كبيرة من العملات المشفرة، خاصة تلك التي لا تستند إلى الدولار مثل البيتكوين، يحوي مخاطر حادة لمستثمريها. وحتى العملات المشفرة التي تستند إلى الدولار مثل عملة Tether فهي أيضًا في غير مأمن كبير من التقلبات، فقد تنتهي علاقتها به يومًا ما.

وتبقى المشكلة الأهم والأخطر التي تكمن في مجموعات التنقيب التي تمتلك أكثر من 51 في المائة من القدرة التعدينية للعملة المشفرة، والتي يمكنها أن تتحكم في قيمة العملة، ويُقصد بذلك أن أي عملة مشفرة تحتاج إلى منقبين Miners يقومون بعمليات التنقيب داخل سلسلة الكتلة (البلوك تشين) الخاصة بالعملة المشفرة. بعبارة أخرى، هم مجموعة المراجعين الحسابيين الذين يتأكدون من صحة المعاملات المالية التي تتم عبر العملة المشفرة وتأكيدها داخل سلسلة الكتلة.

وتكمن المشكلة في أن عمليات التعدين هذه تحتاج إلى مزارع تعدين Mining Farms تحتوي على آلاف أجهزة الكمبيوتر الضخمة التي تقوم بعمليات التعدين، و65 في المائة من مجموع هذه المزارع حول العالم توجد في الصين فقط، للاستفادة من عدد الأجهزة الموجودة بها، ورخص أسعار الكهرباء؛ وإذا استطاع مجموعة من المنقبين أو إحدى الشركات العملاقة امتلاك أكثر من 50 في المائة من القدرة التعدينية لإحدى هذه العملات فإنهم يمكنهم التأثير في قيمة العملة والتحكم في قوتها.

الانتقال إلى العملات المشفرة

تشير الورقة البحثية إلى أن الانتقال إلى العملات المشفرة ما هو إلا خطوة إضافية في هرم تطور المعاملات المالية بين الأفراد، فكما تطورت الحياة البشرية قديماً من نظام المقايضة في العصور الأولى إلى إصدار العملات الذهبية والفضية، ثم إصدار العملات الورقية، ثم الدفع الإلكتروني عبر البطاقات الإلكترونية؛ سوف تأخذ خطوة أخرى بالانتقال إلى جيل جديد من نظم التبادل المالي عبر “البلوك تشين” والعملات المشفرة. وكما قامت الدول ببناء مؤسسات تنظم عملية إدارة النقد التقليدي مثل البنوك، فسوف تقوم ببناء مؤسسات أخرى وظيفتها إدارة العملات المشفرة.

وبات جلياً أن العملات المشفرة أصبحت جاذبة وبشدة لعدد كبير من المستخدمين حول العالم لعدة أسباب، فهي -من ناحية- تقدم لهم أهم ميزة يحتاجونها، وهي تحويل ودفع الأموال فوراً وبدون أي رسوم. وبدلًا من أن يأخذ التحويل المالي عبر الطرق التقليدية عدة أيام حتى يصل إلى الطرف الآخر، سوف يصل عبر “البلوك تشين” في اللحظة نفسها، وبدلًا من أن يأخذ البنك أو المؤسسات الوسيطة رسومًا ونسبًا مقابل عملية التحويل، لأنها ضامنة ومنفذ لهذه العملية، فسوف يقوم “البلوك تشين” أيضًا بهذه العملية ولكن دون أي رسوم تذكر.

إن الواقع يخبرنا بأن هناك تغيرًا ملموسًا وحقيقيًا يحدث على أرض الواقع، وبأن الدول يجب أن تتحرك للتكيف مع هذا المتغير الجديد، مثلما تغيرت من قبل وتكيفت مع عدة تطورات تكنولوجية سابقة، مثل: اعتماد نظم الدفع الرقمي عبر بطاقات الائتمان، وتقديم الخدمات الحكومية الرسمية عبر نظم الحكومات الذكية، والتكيف مع سطوة مواقع التواصل الاجتماعي على المواطنين والأفراد، وغيرها من التطورات التكنولوجية المركبة التي لم تجد الدول مفرًا من التكيف معها بعد ترشيدها وتقنينها.

الاستعدادات والتحديات

في ظل هذه التطورات، يؤكد المركز البحثي أن هذا الواقع يطرح التفكير بجدية في بداية التحول نحو تدشين نسخ مشفرة من العملات الوطنية، فيكون مثلًا هناك “كريبتو دولار” أو “كريبتو يورو”، يوجد جنبًا إلى جنب مع العملة التقليدية المطبوعة، على أن يتم إحلالها تدريجيًا محل العملات المطبوعة، ويصبح النظام النقدي قائمًا على مفهوم العملات المشفرة المستندة إلى نظام “البلوك تشين”، بمعايير وشروط تتماشى مع أهداف الدول وتحقق أمنها.

وتقترح الورقة البحثية أن الدولة وحدها هي التي تصدر العملة المشفرة، وتتحدد قيمتها بالطرق التقليدية التي يتم تحديد قيمة العملة بها، من وجود احتياطي نقدي من الذهب والعملات الأخرى (سواء كانت مشفرة أو غير مشفرة). كل ما في الأمر أن العملة أصبح تداولها بصورة مشفرة كاملة بدلًا من تداولها عبر بطاقات الائتمان أو طرق الدفع التقليدية (الكاش).

وللتغلب على مشكلة إخفاء الهوية، يصبح التسجيل في المحافظ الإلكترونية الخاصة بهذه العملة عبر بطاقات الهوية الوطنية منعًا إلى إساءة الاستخدام، وتتولى جهة حكومية، كالبنك المركزي مثلًا، عملية مراجعة وتدقيق العمليات التي تتم عبر المحافظ الإلكترونية، للتأكد من سلامتها وعدم استخدامها في عمليات تمويل غير شرعية أو التهرب من الضرائب.

لكن المؤكد أن عملية التحول هذه لن تكون بهذه السهولة، فهناك تحديات فنية وأمنية واقتصادية وثقافية أيضًا تواجه عملية التحول هذه لدى كثير من الدول، بل لدى جميعها حتى المتقدمة منها، على الأقل في المنظور القريب، ولكن الدول الأكثر تقدمًا، والتي قطع نظامها النقدي شوطًا كبيرًا في عمليات الرقمنة والتحول المالي، وباتت ثقافة الدفع الإلكتروني راسخة داخل المجتمع بها وفي جميع التبادلات المالية لدى المستخدمين، هي الأكثر استعدادًا لتقبل هذه التغيرات والتكيف معها مقارنة بغيرها من الدول أو المجتمعات الأقل تقدمًا، والتي لم تكتمل بنية نظامها المالي الرقمي بعد، ولم تنتشر خدمات الإنترنت فيها بصورة كافية، والتي قد يصعب لدى بعض الفئات المهمشة داخليًا فيها أو الأكثر فقرًا على تقبل هذا التغيير الكبير.

كما أن عملية بناء البنية التحتية الكاملة التي تضمن السيطرة على العملة الوطنية وعدم خروجها من الاقتصاد الوطني إلا وفق معايير وضوابط سوف تكون شديدة التعقيد، لأنه في هذه الحالة يجب دمج شبكات العملات المشفرة على مستوى مختلف الدول لتحديد مصادر خروج ودخول الأموال، تمامًا مثلما تفعل البنوك التقليدية حاليًا.

ومن ناحية أخرى، يجب التفكير أيضًا في مصير البنوك والمؤسسات المالية، ماذا سوف تكون وظيفتها في ذلك الوقت، فهي لم تعد وسيطًا لتبادل الأموال، بل إنه لا توجد أموال من الأساس لكي يتم وضعها في الحسابات حتى تحتفظ بها البنوك في خزائنها، لأنه ببساطة أصبحت جميع الأموال افتراضية مشفرة في المحافظ الرقمية؛ فلا توجد أموال يتم نقلها أو الاحتفاظ بها بالبنوك، ولن يستطيع البنك القيام بدوره كمؤسسة للإقراض أو حتى الاستثمار لأنه لم يعد خزانة توجد بها أموال للمودعين حتى يتم استثمارها، بل قد يتحول إلى مجرد مؤسسة تمويل محدودة، يضع فيها مجموعة من رجال الأعمال رؤوس أموال لإقراض الأفراد سلة من العملات المشفرة نظير عائد مالي أو فائدة.

The post تطور العملات المشفرة عبر العالم يطرح تحديات وعوائق مالية واقتصادية appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى