توترات شرق “البحر المتوسط” .. تعقيدات مرحلية أم تحولات جيو-سياسية؟

اعتبر عبد الكريم إبنوعتيق، وزير سابق عضو مركز الدراسات الديبلوماسية والاستراتيجية بباريس، أن الاكتشافات الأخيرة للغاز الطبيعي بكميات كبيرة في مجموعة من الدول أدت إلى بروز صراعات ذات طابع جيو-إقليمي، انضافت إلى التعقيدات الموجودة في الفضاء المتوسطي منذ زمن بعيد.

وتطرق الوزير السابق لتأسيس “منتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط” وتحويله إلى منظمة إقليمية هدفها تطوير العلاقات القائمة بين الدول المعنية بالاكتشافات الطاقية الجديدة؛ هذه التقاربات مهدت الطريق إلى التوقيع على العديد من الاتفاقيات المتعلقة بترسيم الحدود البحرية.

وأبرز عضو مركز الدراسات الديبلوماسية والاستراتيجية بباريس، في مقال توصلت به هسبريس، مجموعة من التحركات التي اعتبر أنها تفسر رغبة أنقرة مؤخرا في خلق أجواء إقليمية جديدة، وذلك بقراءة برغماتية وبحس انتقائي مقصود، الهدف من ذلك هو الابتعاد عن سياسة التوترات مع كل من إسرائيل ومصر قصد قطع الطريق على أي تدخل أوروبي في الإشكالات القائمة حاليا في شرق البحر الأبيض المتوسط، مع محاولة فتح صفحة جديدة مع باريس.

وإليكم نص المقال:

مجموعة من الدول تطل على شرق البحر الأبيض المتوسط، من بينها مصر واليونان وقبرص ولبنان والسلطة الفلسطينية وتركيا وسوريا وإسرائيل، الاكتشافات الأخيرة للغاز الطبيعي بكميات كبيرة أدت إلى بروز صراعات ذات طابع جيو-إقليمي، انضافت إلى التعقيدات الموجودة في الفضاء المتوسطي منذ زمن بعيد، يجب التأكيد هنا أن تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة أتاح الفرصة حسب المتتبعين لموسكو لكي تتموقع من خلال بوابة دمشق بحثا عن موطئ قدم، زد على هذا بروز فاعلين إقليميين جدد، على رأسهم تركيا التي تصارع دفاعا عن مصالحها من خلال مشروعها “الوطن الأزرق”، كجواب على التكتلات والتحالفات التي تهدف إلى إعادة ترتيب خريطة جديدة للضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.

تكتل طاقي أم تحالف مستقبلي؟

للحفاظ على مصالحها المشتركة، بادرت بعض الدول المطلة على شرق البحر الأبيض المتوسط في يناير 2019، إلى تأسيس إطار أطلق عليه “منتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط”، تم الاتفاق على أن تحتضن القاهرة مقر هذه الهيئة الجديدة. بعد ذلك وبمدة قصيرة، أي في شتنبر 2020، تم تحويل المنتدى إلى منظمة إقليمية هدفها تطوير العلاقات القائمة بين الدول المعنية بالاكتشافات الطاقية الجديدة؛ هذه التقاربات مهدت الطريق إلى التوقيع على العديد من الاتفاقيات المتعلقة بترسيم الحدود البحرية، مثل اتفاق قبرص لبنان سنة 2005، واتفاق قبرص وإسرائيل سنة 2010 لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، ثم اتفاق قبرص ومصر سنة 2012، واتفاق اليونان وإيطاليا سنة 2020، واتفاق اليونان ومصر سنة 2020، وبالرغم من هذه المجهودات الهادفة إلى وضع إطارات قانونية انسجاما مع روح القانون الدولي، إلا أن هناك خلافات جوهرية ما زالت قائمة إلى حدود اليوم، مثل الخلاف اللبناني الإسرائيلي والخلاف التركي اليوناني القبرصي حول تحديد المياه الإقليمية في بحر “إيجي”، بعد رفض تركيا تحديد قبرص للمنطقة الاقتصادية الخالصة، مما دفع بأنقرة إلى التوقيع مع حكومة الوفاق الليبية في نونبر 2019 على اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بينهما، هذه الخطوة أثارت حفيظة اليونان وقبرص اللتين اعتبرتا الاتفاق بمثابة انتهاك لحدودهما البحرية.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-1608049251753-0’); });

القوى الكبرى تتابع عن كتب توتر العلاقات بين تركيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، خاصة فرنسا. هذه الأخيرة تعي جيدا أن أنقرة تربط بشكل جدلي بين التواجد في ليبيا وبين الدفاع عن مصالحها في شرق البحر الأبيض المتوسط، فحضور تركيا في ليبيا حسب المختصين هو المفتاح لتحصين أمنها الطاقي على المدى البعيد، الخلافات الأخيرة كادت أن تؤدي إلى مواجهات بحرية، مما دفع بمجموعة من الدول إلى البحث عن تحالفات قبلية تجسدت في مناورات عسكرية عديدة ضمت مجموعة من الدول المطلة على شرق المتوسط أو القريبة منه، مثل مناورات “سيف العرب” التي عرفت مشاركة قوات من مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن والبحرين بقاعدة محمد نجيب في نونبر 2020، ثم المناورات المشتركة بين فرنسا واليونان وقبرص ومصر والإمارات العربية المتحدة. وبالرغم من هذه التحركات، فإن المتتبعين يؤكدون وجود اختلافات بنيوية في تركيبة الدول المعنية بالاكتشافات المتعلقة بالغاز الطبيعي في الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، مما يشكل عائقا أمام بروز تحالفات منسجمة ودائمة على المستوى السياسي والعسكري.

تركيا مصر وإسرائيل.. اختلاف في المقاربات والرؤى

الاكتشافات المهمة للغاز الطبيعي بثلاث مناطق بشرق البحر الأبيض التوسط، سواء في مصر من خلال حقل “الزهر” “Zohr” أو في إسرائيل من خلال حقل “ليفيا تون” “Léviathan” أو في قبرص من خلال حقل “أفروديت” “Aphrodite”، باحتياطات مؤكدة تصل حسب الخبراء إلى 1440 مليار متر مكعب، دفعت بدول عديدة مطلة على شرق المتوسط إلى التفكير في مشروع مستقبلي مشترك لتصدير الغاز عبر أنبوب يمر من اليونان نحو إيطاليا ومنها إلى دول الاتحاد الأوروبي، مما قد يشكل منافسة مباشرة لأنبوب الغاز القادم من أذربيجان والمسمى بأنبوب “BTC”، أي باكو تبليسي وشيان (Bakou – Tbilissi-Ceyhan) العابر لتركيا نحو أوروبا.

رد فعل أنقرة تمثل في إرسال بواخر للتنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان، ما اعتبره البعض تهديدا لاستقرار المنطقة بأكملها. المختصون في قضايا الغاز الطبيعي يرون أن تكاليف التنقيب بالنسبة لتركيا هي أغلى من فاتورة استيرادها للغاز، لكن هذه الأخيرة لها رغبة في تأمين نوع من الاستقلالية من المزودين الأجانب مع الإصرار على التموقع كملتقى إقليمي للغاز الطبيعي، مستعملة بشكل ذكي وبرؤية استراتيجية تواجدها في ليبيا. بالنسبة لمصر وإسرائيل اختارتا الابتعاد عن الدخول في الخلافات الإقليمية؛ فمصر تنتقل تدريجيا من دولة مستوردة للغاز إلى دولة مصدرة، تنتج حاليا 6.6 مليارات متر مكعب في اليوم، بارتفاع وصل إلى 30% مقارنة مع سنة 2016، منذ عشر سنوات والاكتشافات تتواصل، لا سيما في مياه البحر الأبيض المتوسط، أهم الآبار تم التنقيب عليها من طرف الشركة الإيطالية “ENI”، الاحتياطات الكبيرة في المياه العميقة في الحقل المسمى “الزهر”، التي تقدر بـ850 مليار متر مكعب قابلة للاستخراج والاستغلال، هي أكبر احتياطي موجود في البحر الأبيض المتوسط، لا يبتعد إلا بـ170 كلم على السواحل المصرية، الشركة الإيطالية المكلفة بالاستغلال تملك 60%، تنازلت للشركة الروسية “روس نفط” على 30%، ولشركة “BP” على 10%، الفاعل الإيطالي في مجال الغاز له اتفاقيات عديدة مع الشركة المصرية “EGP ” Egyptian General Petroleum Corporation”، داخل مصر وخارجها.

في غشت 2020، وقعت مصر مع اليونان اتفاقية تهم الجوانب البحرية كجواب على الاتفاق التركي الليبي الموقع نهاية 2019، القاهرة تحافظ على علاقة متوازنة مع إسرائيل، وقعت على اتفاقيات مع موسكو تشمل مجالات عديدة، حافظت على شراكة استراتيجية مع واشنطن، لها تقارب مع بكين، وتحاول الحفاظ على خيوط الاتصال مع دمشق وطهران، تركيا متوجسة من التقارب الحاصل بين القاهرة واليونان وقبرص، لا سيما وأن أثينا ومصر وقعتا سنة 2014 على اتفاق تعاون يشمل لأول مرة جوانب عسكرية تتعلق بالتكوين والقيام بتمارين مشتركة.

بالنسبة لإسرائيل، اكتشافات الغاز انطلقت منذ سنة 2009 بحقل “طمار” باحتياطات تقدر بـ 260 مليار متر مكعب، ثم حقل “دالي” و”ليفيانتي” بـ650 مليار متر مكعب، ثم حقل “دول فين” بـ2.3 مليار متر مكعب، ثم حقول “سارة وميرا” بـ180 مليار متر مكعب، ثم حقل “طنين” بـ31 مليار متر مكعب، فحقل “كاريش” بـ51 مليار متر مكعب، ثم حقل “رويي” بـ91 مليار متر مكعب، وأخيرا حقل “سيمهون” بـ15 مليار متر مكعب. احتياطات إسرائيل المؤكدة تصل إلى 1500 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، تل أبيب تراهن على شيئين أساسيين: الأول هو تحقيق الاستقلالية الطاقية، والثاني هو التحول إلى بلد مصدر لهذه المادة من خلال الدفع بمشروع أنبوب شرق البحر الأبيض المتوسط العابر لقبرص واليونان نحو أوروبا.

يجب الإشارة هنا إلى أن المتتبعين للشأن الاستراتيجي للشرق الأوسط اعتقدوا في البداية أن اكتشافات الغاز قد تؤدي إلى تصدع في العلاقة القائمة بين مصر وإسرائيل أو إلى منافسة شرسة بينهما، العكس هو الذي حصل، فالشراكة بين القاهرة وتل أبيب عرفت تطورات في مجالات متعددة، مؤطرة بنوع من الوعي الثنائي الذي يعطي الأولوية للتنسيقات الدبلوماسية والأمنية على حساب المنافسة التجارية.

اليونان وقبرص ومحدودية غطاء الاتحاد الأوروبي

إلى حدود سنة 1972، لم تكن هناك مشاكل مطروحة بين اليونان وتركيا حول إشكالية بحر “إيجي”، ذلك أن البواخر التركية كانت تتمتع بحرية المرور نحو البحر الأبيض المتوسط، وظهرت بعض المشاكل عند اكتشاف البترول قرب جزيرة “طاسوس” اليونانية.

تركيا طالبت آنذاك بنصيبها من هذا البترول من خلال التأكيد على ضرورة تقسيم بحر “إيجي”، وذلك بإعادة النظر في اتفاقية لوزان لسنة 1923. لمجابهة هذا الوضع، طورت اليونان علاقتها مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن تحالف قادر على خلق نوع من التوازن مع الجار التركي. ومعلوم أن الولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على قاعدة عسكرية باليونان وأخرى في طور التهيئة في شمال هذا البلد. الصين هي الأخرى حاضرة باستثمارات ضخمة باليونان، لا سيما في ميناء “بيري” الذي يعد من أكبر الموانئ الأوروبية المتخصصة في شحن البضائع.

أنقرة واعية بأن الأزمة المالية التي مست اليونان في السنوات الأخيرة قد أثرت على إمكانياتها العسكرية، نظرا لسياسة التقشف التي فرضتها بروكسيل، وبالرغم من أن ميثاق الاتحاد الأوربي ينص في البند 42.7 على أنه في حالة تعرض عضو من الاتحاد إلى اعتداء عسكري، فإن الدول الأعضاء مطالبة بتوفير كل شروط الدعم، اليونان وكذلك جزيرة قبرص تعرضتا حسب الأخبار الواردة من المنطقة لمس بسيادتهما، رد فعل بروكسيل اقتصر على تصريح المجلس الأوروبي في يونيو 2019، الذي عبر عن انشغاله بعملية التنقيب التي تقوم بها تركيا في بحر الأبيض المتوسط، باستتناء فرنسا التي تدعم عسكريا اليونان استمرارا لإرث تاريخي منذ أن قرر الجنرال دوغول تزويد هذا البلد بالأسلحة الفرنسية.

مؤخرا، وافقت باريس على صفقة عسكرية لصالح اليونان، تضم ثماني طائرات رافال وأربع فرقاطات بالإضافة إلى أربع طائرات هيليكوبتر ذات الاستعمالات البحرية العسكرية، كما أعلنت الحكومة اليونانية عن برنامج لتوظيف 15 ألف جندي. في ظل هذه الأجواء المحتقنة، تم تنظيم مناورات عسكرية مشتركة من طرف كل من فرنسا واليونان وقبرص في 26 و28 شتنبر 2020.

في الجهة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، جواب الرئيس التركي كان واضحا، وهو أن أنقرة لن تتنازل عن حقوقها في البحر الأسود وفي بحر “إيجي”، وأنها ستستعمل كل الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية لقطع الطريق على هذا الموقف. ورخصت قبرص لمجموعة من الشركات قصد الشروع في التنقيب على الغاز، من بينها “نيبل إينيرجي” الأمريكية، والشركة المختلطة الإيطالية الكورية الجنوبية “إيني كوكاص”، والفرنسية “طوطال”، والأمريكية “إيكسن موبيل” بشراكة مع القطرية “بيتروليوم”؛ هذه الشركات بالرغم من التهديدات التركية ما زالت تشتغل إلى يومنا هذا في جزيرة قبرص.

هذا ما يفسر رغبة أنقرة مؤخرا في خلق أجواء إقليمية جديدة، وذلك بقراءة برغماتية وبحس انتقائي مقصود، الهدف من ذلك هو الابتعاد عن سياسة التوترات مع كل من إسرائيل ومصر قصد قطع الطريق على أي تدخل أوروبي في الإشكالات القائمة حاليا في شرق البحر الأبيض المتوسط، مع محاولة فتح صفحة جديدة مع باريس، القناة الوحيدة القادرة على الضغط على أثينا وقبرص لجرهما إلى مفاوضات مع تركيا، يعتبرها المختصون صعبة على المدى القريب نظرا لغياب الثقة بين الأطراف الأساسية من جهة، ولوجود إرث تاريخي حاضر في أذهان صناع القرار، يشكل حاجزا أمام إيجاد توافقات مبنية على مصالح متفاوض عليها ومقبولة من طرف الجميع.

The post توترات شرق “البحر المتوسط” .. تعقيدات مرحلية أم تحولات جيو-سياسية؟ appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى