في ذكرى رحيل خوسي باشيكو .. الشاعر يحرث البحر ويكتب فوق الماء

في 26 من شهر يناير الماضي 2021 حلت الذكرى السّابعة لرحيل الشاعر المكسيكي خوسّي إميليو باشيكو (1940 ــ 2014) الذي يعتبره الكتّابُ والنقادُ في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس من كبار الشعراء المكسيكييّن في العصر الحديث، وهو معروف بإسهاماته الكبيرة في الحقل الإبداعي، شعراً ونثراً على حدٍّ سواء.

عندما فاز باشيكو عام 2010 بجائزة سيرفانتيس الراقية في الآداب الإسبانية (التي تعتبر بمثابة جائزة نوبل في هذه اللغة) أشيع عنه ظلماً وبهتاناً أنه كان قد صرّح قبل حصوله على هذا التكريم بأنه من أحسن الشعراء في أمريكا اللاّتينية، إلاّ أنه فنّد تلك المزاعم قائلاً: “كيف يمكنني قولَ ذلك؟ فأنا لا أطمح أن أكون حتى أحسن شاعر في الحيّ الذي أقطنه”، وأردف قائلاً ومداعباً: “لا، لا، نسيتُ أن أقول إنني جارٌ في مدينتي مكسيكو سيتي للشاعر الأرجنتيني خوان خيلمان”.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-1608049251753-0’); });

وعن خوسي باشيكو قال ذات مرّةٍ مواطنُه الكاتب المكسيكي الكبير الراحل كارلوس فوينتيس: “إن الأعمال الإبداعية لخوسّي باشيكو هي أعمال ذات صبغة عالمية، وهو يشارك بها جنباً إلى جنب في الأمجاد الأدبية لكبار الشّعراء على امتداد العصُور”؛ ويعتبر بعضُ النقاد قصيدته التي تحمل عنوان “الخيانة العظمى” من أعظم القصائد في الإبداع الشعري المكسيكي المعاصر، وهي مدخل أساسي للغوص في تاريخ المكسيك القديم وفهمه، والتعرّف على المشاعر المتناقضة لدى العديد من المكسيكييّن حيال ماضيهم العريق وحضارتهم الفريدة.

عناصرُ الليل وسُكونُه

منذ ظهور اثنيْن من كتبه الأولى “عناصر الليل” (1962) و”سكون الليل” (1966) أبان خوسيّ إميليو باشيكو عن نبوغٍ مُبكر ومقدرةٍ فائقة، وتفوقٍ في الإبداع الأدبي في الشعر والنثر معاً، وهكذا يصف الناقد المكسيكي “إيفراين وينتاس” هذين الديوانين بأنهما “مكتوبان بلغة نابضة، وعاطفة متأججة، وعمق كبير”. ويلاحظ هذا الناقد أن الشاعر باشيكو فاجأ الأوساط الأدبية في ذلك الوقت، وهو بعد في مقتبل عمره وشرخ شبابه، خاصّة في ما يتعلق بالمواضيع التي كان يختارها لمضامين شعره، فضلاً عن جرأته في تعريته لحقائق الحياة المرّة، يُضاف إلى ذلك جمالية صُوَره الشعرية، وأخيلته المجنّحة.

يقول باشيكو: إنّ الحمامة الرماديّة / تنفُضُ عنها سكونَ الصّمت / فيشعّ طيرانُها العالي / في الأفق الفسيح.

يُضاف إلى ذلك عنصر التماثل الثقافي في الشعر الأمريكي اللاّتيني المعاصر عنده، حيث يقول: أنتَ تُدرك جيّداً / أّنّ أحداً لم يعرف يوماً قدَرَه / كلُّ ما هو آتٍ مجهول / فلا تستفسر أبداً التكهّنات.

ويجد القارئ في شعره المبكر كذلك تشابهاً، وتقارباً، وتماثلاً لإطنابات الشاعر الفرنسي المعروف أرثر رامبو وتخميناته المنبسطة حيث يقول: في وقت كنتُ أنجرفُ/ مع الأنهار الباهرة / أيقنتُ أن الذي كان يجرفني / هما اكتئابي وتوجّسي.

ونجد في كتاب باشيكو “لا تسألني كيف يمرّ الزّمن” (1969) أنّ شعره يزداد ثراءً وعمقاً ونضجاً، وتتميّز تجربته الإبداعية الفريدة بتنوّع الصّور الشعرية، وعمق مضامينها؛ وكان لا يخرج على الناس بشيء من شعره إلاّ إذا راجعه مراجعة جيّدة، ونقّحه تنقيحاً دقيقاً، وهو يذكّرنا في هذا القبيل بشاعرنا العربي القديم أبي تمّام الطائي الذي كان معروفاً بمراجعاته الدقيقة والطويلة لشعره قبل نشره على الناس. إن شعر خوسّي إميليو باشيكو حصيلة قراءاتٍ واطّلاعاتٍ واسعة، وتجارب إبداعية متعددة، حيث يتجزأ ويتفرع ويتميّز صوته الشعريّ في صيغٍ لغويةٍ متعددة، وأشكال بلاغية متباينة، وأقنعة مختلفة، وأصوات إبداعية متناوشة في تحاورٍ وتشاجرٍ وتناوشٍ وعناد.

باشيكو وبلديُّة باث

الشاعر المكسيكي المعروف الراحل أوكتافيو باث (حاصل على جائزة نوبل في الآداب 1990) يقول في مقدمة كتابه “الحركة الشعرية في المكسيك”: “تجليّات إميليو خوسيّ باشيكو الشعرية تظهر في شكل تعامله مع اللغة على وجه الخصوص، حيث نجدها عنده لغة هادئة واضحة، إلاّ أنها في الآن نفسه لغة مُوفية صاخبة”.

وفي ديوان باشيكو آنف الذكر “لا تسألني كيف يمرّ الزمن” تبدأ مرحلة جديدة في شعره يصنّفها الناقد المكسيكي خوسيّ ميغيل أوفييرُو بأنها تتّسم بنوعٍ من السخرية والتهكم، وتميّزها صراحة وجرأة في رؤيته للمجتمع ونقده له، وتُعتبر قصائده مفاتيح سحرية يكتشف بها باشيكو عوالمه الشعرية، ورؤاه البعيدة الغور، وتجعلنا نشعر في بعض تجاربه الشعرية أنه ينسلخ عن شخصيته الحقيقية في فنه، ويفضي بنا إلى التفكير في شاعر إسبانيا الأندلسي الكبير أنطونيو ماتشادو في “يوميات مُعلّم البلاغة والبيان”؛ وذلك عندما تواجهنا في أشعار باشيكو شخصيات الوجه الظاهر الخارجي، والمُحيا المتخفي الداخلي للشاعر أيّ عندما نقف على الوجه الحقيقي للشاعر المتواري بين الواقع والخيال، أو الزيف والقناع.

عوالم باشيكو الشعريّة

إنّنا نجد باشيكو في ديوانه “ترحلين بلا عودة” (1969) يصف حرفة الشاعر ويأسَه وخيبةَ أمله فيقول:

إنه كمن يحرث البحرَ / ويكتب فوق الماء ! .

ويكرّر الشاعر ويعود ويؤكد في السياق ذاته الصورة نفسها عندما يقول:

في ذلك العام كتبتُ عشرَ قصائد / عشرَة أشكالٍ مختلفةٍ من الفشل !

ونجد في ديوانه “جزر الانسياق” (1975) غيرَ قليل من الحقائق التاريخية والجغرافية، فضلاً عن الغوص في سديم الطقوس المتوارثة، والأساطير القديمة المُجترّة في بلاده، وهو يحاول في هذا الإطار أسر الزمن الذي لا يرحم، بواسطة الكلمة الشعرية، كما يعمل على إعادة خلق الشعر داخل الشعر، أيّ الاستشهاد أو ذكر شعراء آخرين في شعره.

ويصف الناقد المكسيكي خوسيي ميغيل أوفييرُو شعرَ باشيكو قائلا: “إنه شعر شبيه بشُعاع الشمس الذي يخترقُ الزجاجَ بدون أن يلطخه أو يخدشه”، ونجد في شعره أبياتاً تعتبر علامات ثابتة مضيئة، وصُوىً مرصوصة موضوعة في طريق الزّمن، في حين أنّ له أشعاراً أخرى تنمو، وتتحرّك، وتتغيّر، وتتبدّل من قارئ إلى قارئ، ومن زمنٍ إلى زمنٍ آخر، وهي أشعار ذات رمزية عميقة بعيدة الغور.

يقول باشيكو في قصيدته الشهيرة “التفكير الدائم في إيتاكا، أو النزول إلى إيتاكا”:

دائم التفكير أنتَ في «إيتاكا / النزول إليها هو قدرُك المحتوم / ولكن لا تحاول استباقَ يومك /من الخير أن تنتظر أعواماً طويلة أخرى / وعند نزولك للجزيرة / يكون الزّمن قد سلّمك للهرم / إلّا أنك ستصبح ثرياً / بما ستكسبه خلال رحلة الإبحار / دون أن تنتظر أن يأتيك الثراء / وهكذا فإنّ إيتاكا / وهبتك سفرية رائعة / فلولاها لما برحتَ مدينتك / ماذا إذن تريد أن تمنحك أكثرَ / ممّا حصلتَ عليه / إنْ لم تجد بها شيئاً / فقد كسبت شيئاً آخر / ها قد أصبحت عالِماً بتجربتك / عندئذٍ سوف تعرف ماذا / كانت تعني لك أو بالنسبة إليكَ إيتاكا.

ونجد في ديوانه “أعمال البحر” (1982) غيرَ قليلٍ من الإشارات، والدلالات، والتجارب حول رحلات وسفريات باشيكو، ليس في الحيّز الجغرافي وحسب، بل والزّمني، والخيالي كذلك، حيث تجاوز في ذلك كثيراً من الشعراء والأدباء الذين أعجب بهم وبإبداعاتهم وحياتهم؛ كما أنه في هذا الديوان يتعرّض للتجارب السياسية التي اجتازتها بلاده، بل إنه يتعرّض كذلك للطبيعة والمظالم التي حاقت ولحقت ببلاده المكسيك، وببلاد الله الواسعة، وهو يخصّص حيزاً مهمّاً في هذا الديوان لمدينته العملاقة مكسيكوسيتي، التي يقول عنها: “إنها مدينة تبرّئ وتُسامح الغراب، وتغيظ وتُغضب الحمامة. ولقد قيّض الله لي أن أعيش في هذه المدينة المترامية الأطراف ما يربو عن أربع سنوات أوائل التسعينيّات من القرن الفارط”.

وفي كتابه “مدينة الذاكرة” نجد باشيكو ينأى عن صيغة التبليغ التي تميز بها شعرُه، وبالأخصّ كتابه السابق، ويكسب صوته الشعري مغزىً أكثرَ مرارة، وأشدَّ مضضاً، وأعمقَ موضوعية، حيث ستصبح الميزة الأساسية في شعره ولن يحيد عنها بعد ذلك؛ إنه يقول في هذا السياق لم يعد أطفالنا يستمعون / أو يستمتعون بقصص السحَرة والجدّات / من هوْل ما يحدث فينا وبيننا / أحلامنا وحدها فقط / لم يلحقها بَعدُ الذلّ والهوَان / فأجملُ ما بقي في الإنسان / دمُوعُه.
ونقدّم للقارئ الكريم نموذجاً من شعر باشيكو، وهو قصيدته الرائعة “القصيدة وقارئها”التي يقول فيها:

القصيدة…أنت كاتبها

ليس لديّ ما أضيفه إلى ما تحمله قصائدي /لا يهمني التعليق عليها إذا كان لي أحد، فمكاني في التاريخ الآن، أو في ما بعد ينتظرنا جميعاً الغرق / أكتب، وهذا كلّ شيء / أقدّم نصف القصيدة / القصيدة ليست علامات سوداء على صفحة بيضاء / هي عندي موضع اللقاء / مع التجربة الغريبة / القارئ، القارئة / هما صاحبا القصيدة التي أرسم / نحن لا نقرأ للآخرين، / بل نقرأ أنفسَنا فيهم / الأمر يبدو شبيهاً بالمستحيل / أحد لا أعرفه / يمكن أن يرى نفسه في مرآتي / وإن كان هناك فضل في ذلك/ قال “فرناندو بيسّووَا”/ ** فهو للأبيات لا لناظمها / وإن كان، بالصّدفة، شاعراً عظيماً / فسوف يخلف لنا أربعة أو خمسة أبيات جديدة / محاطة بالمسودات / وآراؤه الشخصية / في الواقع، عديمة الجدوى / عالمنا غريب / في كلّ يوم يهتمّ الناس بالشّعراء أكثر/ وبالشعر أقل / لم يعد الشاعر صوت قبيلته، /ذاك الذي يقول ما لا يقوله الآخرون / مازلت أعتقد / أن الشّعر شيء آخر / هو نوع من الحبّ / لا يوجد سوى في الصّمت / عهد سرّى بين مخلوقيْن / بين مجهوليْن غالباً / هل قرأتَ يوماً أن “خوان رامون خيمينيث” /*** فكر منذ نصف قرن في إنشاء / مجلة كان سيطلق عليها المجهول /كانت ستنشر نصوصاً بدون توقيع / وتتألف من قصائد، وليس من شعراء / إنني، مثل المعلّم الإسبانيّ هذا، أتمنّى / أن يكون الشّعر مجهولًا / ما دام جماعياً / إلى ذلك تتوق قصائدي ورواياتي / قد تقول: الحقّ معك / أنت الذي قرأتَ لي ولا تعرفني /قد لا نلتقي أبداً ولكنّنا أصدقاء / إذا راقتك أبياتي / ماذا يهمّ، أن تكون لي / أو لغيري / أو ليست لأحد / القصيدة التي أنتَ بصدد قراءتها / هي قصيدتك / تكتبها عند قراءتك لها !

The post في ذكرى رحيل خوسي باشيكو .. الشاعر يحرث البحر ويكتب فوق الماء appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى